في زخم النقاش الثقافي الذي أثاره مهرجان أصيلة، بدا واضحاً أن العلاقة بين الفن والتقنية تجاوزت مجرد التفاعل الأداتي، لتصبح التقنية اليوم قوة نافذة توجه التعبير الفني وتشكّل تحدياً لجوهر الإبداع الإنساني. لم يعد الحديث عن التقنية يختزل في الآلات والأدوات، بل صار يعني سلطة جديدة تمارس ضغطها على الفنان وتدفعه لإعادة تعريف ذاته وحدود تجربته الجمالية.
يشير نقّاد وفنانون إلى أن التطورات الرقمية، من الذكاء الاصطناعي إلى الوسائط التفاعلية، شكّلت منعطفاً حاسماً في تاريخ الفن. التقنية – التي بدأت كمكمل للعمل الفني – صارت اليوم فضاءً مستقلاً لا يكتفي بإعادة إنتاج الجمال بل يساهم في بلورة وعي فني معاصر يعكس التحولات الثقافية والتكنولوجية المتسارعة. المسرح لم يعد محصوراً في محترف الرسم أو النحت؛ بل اتسعت دائرته ليشمل الفنون الرقمية، والفيديو، والتركيبات التفاعلية، والفن المعتمد على البيانات.
من يتابع الشهادات الأكاديمية والنقدية في هذا السياق، يلحظ اتفاقاً شبه عام على أن التقنية حطمت كثيراً من المسَلَّمات حول معنى الجمال ودور الفنان. لم يعد الإبداع سجلاً للمواهب الفطرية فقط، بل بات ثمرة تلاقح بين الجهد، والتجريب، والمهارات التقنية المتجددة. البعض يرى أن الفنون الرقمية هي انقلاب مرجعي ينتقل فيه مركز الثقل من الفنان إلى الجهاز، وأن دور الخوارزميات آخذ في التنامي على حساب البصمة الإنسانية الخالصة.
لكن ذلك، بحسب أصوات أخرى، لا ينفي أن العقل البشري يبقى الأساس في إضفاء المعنى وشحن الخيال، وأن أدوات الذكاء الاصطناعي، مهما تطورت، ستظل تفتح أمام الفنان آفاق تجريب جديدة دون أن تلغي الحاجة لعقله ووعيه. التجربة الرقمية دمقرطت الإبداع ووفّرت للفنانين والجمهور منصات للتفاعل الكوني، لكنها طرحت في الآن ذاته أسئلة الهوية، والحرية، وأثر تسليع الصورة في عصر مجتمع الفرجة والانبهار البصري.
لعلّ أكبر تحدٍ بات مطروحاً اليوم: كيف يمكن للفن أن يصمد أمام زحف التقنية وهيمنتها دون أن يفقد جوهره الإنساني؟ وهل ستظل المخيلة مصدراً للتميز في زمن تتقاطع فيه رغبات الفنان مع سلطة الآلة؟ مجمل هذه التساؤلات تبقى مفتوحة على مستقبل يتشكّل في كل لحظة، حيث يبدو أن «الذكاء» لن يكون يوماً حصراً على الإنسان أو الآلة، بل هو ملكة تتشكل في منطقة التماس بين الحلم والتقنية، بين الحرية والخوارزمية.